1- السحابه والبركان
كان الفندق كبيراً، حديثاً وانيقاً، ويقع على الطريق التي تصل المطار بقلب المدينة، وهو مؤلف من بنايتين متلاصقتين: الاولى من خمسة طوابق، والثانيه من ثلاثة طوابق. واجمل الغرف هي التي تطل على المدينة، حيث المنظر رائع جداً، اذ تقع المدينة وسك الوادي الذي تحيط به سلسلة من الجبال الشاهقه.
من نافذة غرفتها، وقفت ديانا كلارك تستعرض المناظر الجميلة، تدهشها الاضواء المتلألئة التي تضفي بريقها على كيتو عاصمة الاكوادور. غابت الشمس كالعادة في الساعه السادسه والربع. وفي لحظة واحدة، ارتدت قمم الجبال الواناً مختلفة مروراً بالاخضر والوردي ثم الاحمر الداكن.
وفجأة انطفأت انوار المدينة وظهرت في الفضاء غيمة، بدت شاحبه شفافة، من التلة التي يقوم عليها الفندق.
خيّل الى ديانا في تلك اللحظة انها انتقلت الى عالم ساحر خلاّب. كأنها على قمة برج تابع لأحد القصور التي تتحدث عنها الاساطير، وهي تحلق في السحب. رفعت عينيها ورأت شمس المغيب تضيء القمم الثلجية فوق بركان منتصب تحت سماء مرصعة بالنجوم. وقالت ديانا لنفسها حالمة- هنا، يستتب الأمر من الآن فصاعداً، سأكون انسانة سعيدة.
ما لبث البركان ان غرق في الظلمة وذاب في العتمة، وتبعثرت الغيمة قبل ان تختفي، ولاحظت ديانا ان غرفتها غارقة في العتمة. تنفست الصعداء وغادرت الشرفة ودخلت الى غرفتها واشعلت النور.
وفي الحال تلونت الغرفة الفاخره باللون الوردي اضائت ديانا المصباح الكهربائي قرب السرير ونظرت الى المرآة شاهدت امرأة شابة، ممشوقة، ونحيفة، لها شعر كستنائي ذو بريق ذهبي، وجهها بارز ذو تقاطيع ناعمة و وجنتين نافرتين، وعينين عنبريتين، تعكسان بعض الخجل، وشقتين ناعمتين ممتلئتين تظهران حرارتها وسخائها.
وبالفعل فأن الذين يتعرفون الى ديانا كلارك للمرَة الاولى يدهشهم هذا المزيج الغريب في شخصيتها حيث الخجل والرغبه متفقان بانسجام.
وصلت ديانا الى كيتو منذ ستة ايام، مع والدها، كريستوفر فارلي، المدير العام للشركة النفطية التي تصنع الآليات لبناء ابراج الحفر والتنقيب. وقد سبق لهما وقاما معاً بزيارة لعدة بلدان ف اميركا الجنوبية. وهما الآن في الاكوادور يلبيان دعوة السينيورسانشو سواريز الذي يملك اسهماً كثيرة في احدى ناقلات البترول العالمية التي تقوم بالتنقيب عن البترول في البلاد.
رافقت ديانا والدها رغبة منها بالتغيير. كانت مضظرة الى اتخاذ قرار مهم يتعلق بزواجها. وشعرت بحاجة الى ان تبتعد عن جو البيت في لندن كي تكتشف حقيقة عواطفها تجاه جايسون كلارك زوجها الذي افترقت عنه.
جلست امام مكتب صغير وراحت تبحث في جواريره عن ورق لتكتب رسالة الى عمتها. كان والدها يقوم بجولة استكشاف في الادغال، حيث آبار النفط وهي تنتظره لكنه تأخر اكثر من اربع ساعات، فراحت تكتب الى عمتها جرترود . لعل الكتابة تخفف من القل الذي يكاد يخنقها من جراء تأخر والدها.
اخبرتها كل ما جرى لها منذ وصولها الى كيتو، قبل اسلوع. لقد احبت المدينة التي تبدو في ربيع دائم بسبب مناخها المعتدل برغم موقعها العالي.
الاحياء القديمة، والشوارع الضيقة والشرفات المعلقة، تحمل الطابع الاسباني. فالبيوت مؤلفة من طابقين، جدرانها مطلية بالكلس الابيض وسقوفها من القرميد المخضر بمرور الزمن. تلتصق على بعضها البعض على جهتي الطرقات الصغيرة المنحدرة. وفي ساحة الاستقلال، ما زالت الكاتدرائية وقصر الحكومة يحملان آثار الثورة. لكن المرتفعات المزهرة والاشجار الملتفة، كلها تدعو الى النزهات والى التسكع.
وبرقفة ماريا، زوجة سانشو سواريز الرائعة، ورامون ابنها البالغ من العمر تسع عشر عاماً، زارت ديانا مبنى خط الاستواء، الذي يبعد بعض الكيلومترات عن العاصمة كيتو. هناك تصورت ديانا جزئا منها في نصف كرة الارض الشمالي والجزء الثاني في النصف الآخر الجنوبي. كما زارت معهما الكومبانا، كنيسة كيتو المشهورة كان الدليل عجوزا هنديا ذا وجه داكن وبارد يحمل شمعة مزخرفة. وعندما شاهدت ديانا الكنيسة في الداخل اصابتها الدهشه: التماثيل والمنبر والكرسي واطارات اللوحات، كل شي، حتى السقوف العالية، تبدو كأنها مطلية بالذهب السائل...
وضعت ديانا يديها لحظة على المكتب تدعك اصابعها لتنشطها، لم تكن تضع في اصابعها سوى خاتم ضخم من الذهب الثقيل.
وعاودت الكتابة، واذا بها تسمع نقرة خفيفة على الباب. التفتت بانتباه واصغاء، سمعت طرقة من جديد، لا يمكن ان يكون الطارق والدها، لأنه عادة يعلن قدومه بعزم وقوة، ولأنه يدخل غرفته، ثم يدخل غرفتها من باب الاتصال الذي يصل الغرفتين.
نهضت ديانا ببطء وتوجهت نحو الباب، صحيح انها معجبة باهالي الاكوادور لكنها ليست مستعدة لأن تفتح الباب لأنسان مجهول. اذا كان الزائر واحدا من معارفها، لأبلغوها عن ذلك في مكتب الاستقبال.
سمعت ديانا طرقة ثالثة عندما كانت يدها ما زالت على مسكة الباب. ففتحته ببطء وكان الطارق فيليكس اصغر حجّاب الفندق، فقال بتهذيب وبلغته الاسبانية: - مساء الخير، سيدة كلارك
- مساء الخير، فيليكس
كانت تود الاّ يتابع حديثة باللغة الاسبانية، كي تستطيع ان تفهمه. ويبدو انه ادرك ما يدور في ذهنها، تابع فيليكس حديصة بلغة انكليزية مترددة التقطها من السواح الاميركيين:
- في قاعة الاستقبال شخص يريد ان يراك
- ما اسمه ؟
-لم يقل اسمه بل سأل مكتب الاستقبال عن رقم غرفتك، لكم الموضف هناك رفض ان يعطيه الرقم الا اذا عرّف الشخص عن حاله. لكنه اصر الا يعطي اسمه. ولما رآني طلب مني ان اطلب منك موافاته في المقهى وانه سيدفع لي بعض المال تذت قمت بذلك. هل ستأتين يا سيدتي؟ ارجوك ان تأتي حتى يدفع لي المال
احنى رأسه متوسلاّ. ترددت ديانا. هل من الحكمه ان تذهب لرؤية هذا الرجلالذي رفض الموظف ان يدله الى غرفتها؟
توسل اليها فيليكس:- اذا لم تأت سيدتي، سيغضب علي هذا الرجل. ولا احب ان اكون عندما يغضب. فهو طويل القامة وقوي، ارجوك يا سيدتي ان تذهبي اليه.
اجابته مبتسمة : -اني آتية، انتظرني
تألق وجه ديانا وراح فيليكس يبتسم لها مظهراَ اسنانه العريضة البيضاء.
اخذت ديانا حقيبة يدها وتأكدت من وجود مفاتيح الغرفة داخلها. ولم تنس ان تلقي نظرة الى المرآة لتتأكد من ان فستانها الاخضر لا عيب فيه. ثم خرجت واقفلت الباب ورائها وتبعت فيليكس حتى المصعد.
كان المقهى مضاء بنور خافت. ومع ذلك كان في وسعها ان تلاحظ الوجوه وراء الطاولات الصغيرة المستديرة، القائمة حول منصة، حيث مجموعة من الموسيقيين يعزفون الموسيقى الاميركية-اللاتينية.
سلك فيليكس ممراً يؤدي الى مؤخرة القاعة وتبعته ديانا. وكادت ان تختنق لدى رؤيتها ظهر الرجل. له كتفان عريضان وشعر قصير. توقفت جامدة وراح قلبها يخفق بسرعة كأنما تركض مسافة طويلة.
لا يمكن ان يكون هذا جايسون؟ ربما واحد يشبهه...
كان فيليكس يشرح له بسرعة ماداّ يده نحوه فالتفت الرجل، ورأت ديانا ملامحه وشعرت بحدة عينيه الزرقاوين.
واذا بجايسون يضع يده في جيبه ويخرج قبضة مليئة بالنقود ويضعها في يد فيليكس الممدودة نحوه. وشكره فيليكس وانصرف.
كان الرجل يدير ظهره وكانه غير مبال انها انضمت اليه. غالباً ما كانت تتخيل هذا اللقاء مع زوجها جايسون، الذي افترق عنها منذ سنة تقريباً، تاركاً شقتها في لندن، متهما اياها بعدم ثقتها به. لكنها لم تتصور ابدا ولو في الاحلام انها ستلتقيه في بلد آخر، وغي قارة اخرى، وفي هذه المدينة الساحرة بالذات.
كانت قدماها ترتجفان، وهي تسأله في صوت مبحوح:- ماذا تفعل هنا؟
وضع كاسه الفارغة ورفع عينيه ببطء نحوها وابتسم قائلاً:- اني انتظرك، لماذا لا تجلسين؟
سقطت ديانا في الكرسي وقالت: - انت آخر انسان انتظر ان اراه هنا
- الم يقل لك كريستوفر اني اعمل هنا
- كلا ، فهو لو قال...
-توقفت فجاة عن الكلام. لماذا لم يخبرها والدها بوجود جايسون في الاكوادور؟ هل كان يخشى ان ترفض مرافقته؟
ادرك جايسون ما يجول في خاطرها فقال: -لو عرفت لما اتيت معه.عظيم، لقد فهمت.
-كلا. لا،.. لم اكن اريد ان اقول ذلك لكن، ربما ظن والدي ذلك.
اطلق جايسون ابتسامة ساخرة:-ما زلت لا تعرفين كيف تتصرفين؟ في كل حال لننسى الامر. ماذا تحبين ان تشربي ؟
-ماذا تشرب انت ؟
-اشرب عصير الحامض بالنعناع، انه منعش ولذيذ الطعم، ما رأيك بكأس منه؟
وجدت ديانا من جديد اهتمامه المالوف وشعرت انها مجردة من اي حقد عليه. لكنها استدركت الامر، فيجب الا تستسلم لسحره.
قالت بنبرة هادئة:- اخذ زجاجة كوكاكولا.
بعد ان جاء المشروب واحتست منه جرعة، سألته وهي تنظر اليه يشعل سيكارة وهي لم تره يدخن من قبل.
- لماذا تنتظرني ؟
حدق جايسون بها في نظرة غير مباشرة وهمس قائلاً:-لأطلعك على امر لن يعجبك.
-انه يتعلق بوالدي، اليس كذلك؟ فقد تأخر في العودة، ماذا جرى؟
ومن جديد، نظر اليها ليتأكد من قدرتها على سماع الخبر. هل هي قادرة ان تتحمل صدمة اخرى؟
وسألته بألحاح:- قل لي، يا جايسون. واعدك الا اتصرف تصرفا احمق. لا اغماء ولا نوبة عصبية. ارجوك.لا تجعلني انتظر اكثر.
-تحطمت الطائرة التي كانت تنقل والدك الى بوتو على مدرج الخبوط وهو الآن جريح. فقد اصيب بكسور في اضلاعه وفي ذراعه اليسرى.
-اين هو الآن؟ يجب ان اذهب اليه حالاً.
انتفضت ديانا وراحت ترتجف بقوة وتخيّلت والدها الجريح وحيداً في احد المستشفيات الممتلئة ذباباً ساماً. نهض جايسون واخذها بيده واعادها الى الكرسي